الخميس، 18 ديسمبر 2008

فشل مشروعات تنموية سابقة في التعاطي مع مشاكل استيعاب البطالة


ورغم فشل مشروعات تنموية سابقةتعاطي مع مشاكل استيعاب البطالة المتزايدة ومحدودية قدرة المدن الصناعية التي تم تدشينها في السبعينات والثمانينات تطلب السلطة من جمهورها أن يؤمن بجدية المشروعات الحالية والتي تبدو اكثر طموحاً وبهرجة من سابقاتها السعودية: طقوس تدشين المشاريع
د.مضاوي الرشيد
لا يمر يوم واحد دون ان يفتتح هذا المسؤول او ذاك معرضا او مصنعا او مدينة صناعية او عملا خيريا او مؤسسة تعليمية او مهرجانا ثقافيا فتستعرض المقصات الحادة وتحتشد الجماهير امام عدسات الكاميرات تلتقط الصور التذكارية وتتسابق الاقلام لتنقل الحدث مشيدة بالجهد الجبار والاموال الطائلة التي تصرف على هذه المشاريع التي تكرس النقلة النوعية التي يتوقعها الجمهور. وجميعها تمثل رؤية مستقبلية لعملية التطور والتنمية. وتنتهي المهرجانات ويتصرف الجمهور مبتهلا ومرددا الدعاء والشكر والحمد على النعمة والبركة. لقد تحولت طقوس تدشين المشاريع الى روتين ممل تجاوز حدود الاحتفال والابتهاج واصبح اليوم جزءا لا يتجزأ من العملية السياسية الهادفة الى تكريس قناع جديد للسلطة تختبئ وراءه ومن خلاله تستطيع ان تنشر على جمهورها فكرة السلطة الابوية المعطاء فتضمن بذلك الشعور بالرضا والطمأنينة وتنزع من وعي جمهورها فكرة الحقوق. تظهر طقوس التدشين السلطة بمظهر الاب الحنون وليس السياسي الذي يطلب من جمهوره السمع والطاعة والخنوع. استطاعت القيادة السعودية ان تطور وتوسع فنون التدشين لتصبح عملية اساسية في ممارسة السياسة. وتحتاج اي سلطة سياسية لا ترتكز على قاعدة شعبية واسعة او تمثيل سياسي مبني على مؤسسات المشاركة والتمثيل الشعبي الى ذراعين اساسيين اولهما استعراض القوة القمعية للدولة والتي تتضمن المهرجانات العسكرية والامنية والتي هي بدورها ترسل رسالة مهمة للرعية الداخلية والعالم الخارجي انها تملك من قوات الردع ما تملك وبذلك تفعل دور الدولة كدولة قوية قادرة على التصدي لاي خطر يهدد امنها وسلطتها. وثانيا استعراض القوة الاقتصادية من خلال تدشين مشاريع التنمية والتطور. وتحتاج الاستعراضات العسكرية والاقتصادية الى طقوس مدبرة مسبقا ومخطط لها بحكمة تتبع خطوات معروفة حتى تستطيع ان توصل الرسالة المطلوبة. وكلما كثرت التساؤلات حول دور الدولة ورؤيتها التنموية كلما تعددت الطقوس وتكاثرت وكأنها بذلك محاولة لاسكات النقد او التساؤل. يصبح عندها طقس التدشين نصا مبنيا ليس على كلمات الاطراء والمديح بل على الفعل المصور والمتلفز. يحاول الطقس المستعرض للجمهور ان ينتشل السلطة من عملية التساؤل او التشكيك في جدية اعمالها ورؤيتها المستقبلية وينتزع من الجمهور الصمت المؤقت. ولو سمحت السلطة السياسية بمجال ضيق للحرية من اجل مناقشة المشاريع وتقييمها من قبل جمهور واسع لفتحت بذلك الباب على مصراعيه للكثير من المشاهدين لان يعطوا رأيهم وليس فقط للثناء والاطراء والمديح بل لعملية تقييم جدية. تعتقد السلطة السياسية السعودية انها قادرة على القيام بعملية هندسة اجتماعية تنقل المجتمع من مرتبة العالم الثالث الى مرتبة العالم الاول. وقد تبلورت هذه الرؤية في شعار جديد ردده احد المسؤولين الكبار في منطقة مكة المكرمة. حملت امارة هذه المنطقة شعارا جديدا \'نحو العالم الاول\' في اطار ما يسمى معرض المشاريع الكبرى. ومن اجل تفعيل الشعار لا بد ان يكون هناك معرض يدشن ويفتتح برعاية كبار المسؤولين بمن فيهم رأس الدولة. ويستمر المعرض لمدة ثلاثة اشهر لعرض 14 مشروعا عملاقا حسب صحيفة سعودية محلية. هنا يلتحم الشعار مع طقس التدشين ليغير وعي المواطن من وعي مشكك في قدرة السلطة على تغيير واقعه الاقتصادي وبيئته المتلوثة ودراهمه الفاقدة لقيمتها الشرائية بسبب التضخم المرتفع الى وعي مضلل مترقب أن يأتيه الفرج بعملية اشبه ما تكون بالمعجزة. يساعد طقس التدشين على تثبيت هذه النقلة لأنه يعتمد على وعد مستقبلي ومرحلة انتظار قد تطول او تقصر الاّ انها تبقى في طيات الايام والسنوات المقبلة. ورغم فشل مشروعات تنموية سابقة في التعاطي مع مشاكل استيعاب البطالة المتزايدة ومحدودية قدرة المدن الصناعية التي تم تدشينها في السبعينات والثمانينات تطلب السلطة من جمهورها أن يؤمن بجدية المشروعات الحالية والتي تبدو اكثر طموحاً وبهرجة من سابقاتها. وان لم تنتقل السعودية الى مرتبة العالم الأول سابقاً الاّ ان المعارض الحالية ستكفل هذه القفزة البهلوانية حسب النص الرسمي لطقوس تدشين المعارض. هنا لا بد للمواطن أن يتفاءل بالخير حتى يجده. ولكن تطرح مبادرات التنمية الاقتصادية والطقوس المرتبطة بها معضلة الدولة المركزية ودورها في التنمية. استطاعت الثروة النفطية أن تجعل الدولة السعودية العنصر الأول في عملية التنمية لفترة طويلة. ولكن بعد الضائقة الاقتصادية خلال فترة الثمانينات والتسعينات توجهت الدولة الى اشراك القطاع الخاص والانفتاح الاقتصادي وجلب الاستثمارات الخارجية في محاولة لتقليص الاعتماد على مواردها والتي هي متقلبة حسب تقلبات أسعار النفط العالمية. ورغم توسع الاقتصاد السعودي الا ان النفط العالمية بقي المصدر الرئيسي للثروة والاعتماد على العمالة الأجنبية ازداد رغم شعارات السعودة التي طرحت سابقاً. ورغم الانجازات في مجال التعليم لم يستطع الاقتصاد السعودي ان يوفر فرصاً للعمل أو نقلة نوعية للمجتمع بقي هناك الكثير من المهمشين في جيوب الفقر التي استقرت في المدن الكبيرة وانتشرت في المناطق النائية. وعلى هذه الخلفية ظهرت الصور النمطية للمجتمع السعودي وخاصة شبابه، منهم من وصفه بالكسل والخمول ومنهم من اعتقد انه إتكالي متخاذل أو مرفه مدلل لا يقبل الا ان يكون على رأس شركة أو مؤسسة. يتناسى هؤلاء الآلاف من المواطنين الذين يعملون في مهن وضيعة كالحلاقة والكنس وبيع الخضار والملابس البالية وعمليات التعقيب التي تحتاج الى التردد على مؤسسات حكومية انهكتها البيروقراطية والوساطة والمحسوبية والفساد الاداري. تتلاشى هذه الحقيقة المرة أمام بهرجة تدشين معارض مشاريع التنمية بل انها تختفي من الخطاب الرسمي والذي يكتفي بالاعتراف ببؤر الفقر والعدم بين الحين والحين وهو بذلك يقر بفشله الذريع في تثبيت الخلفية الاقتصادية الصلبة التي تضمن النقلة الى مرتبة العالم الأول. استطاعت مشاريع التنمية السابقة والحالية ان تقر حقيقة واحدة لا يمكن انكارها. تحت ظل الدولة وبمساعدتها استطاعت السعودية ان تنغمس في متاهات طبقية اجتماعية حادة. لقد توسعت الفجوة بين الغني والفقير الى درجة خيالية نتيجة تطورات سياسية واقتصادية وعملية تنمية خلفت فرصا خيالية لاقلية صغيرة مرتبطة بالدولة وهمشت اكثرية ساحقة تقلصت قدرتها الشرائية وطموحاتها في ظل دولة من اغنى دول العالم. هذه الطبقية ليست قدر السعودية الطبيعي الذي لا يمكن تجاوزه او تصحيحه بل هي افراز من افرازات التنمية الخاطئة وسوء توزيع الثروة واحتكارها من قبل حلقات داخل الدولة او مرتبطة بها بشكل او بآخر. بالطبع لا يوجد مجتمع في العالم ليس فيه تمايز اقتصادي ولكن ان كانت للسعودية خصوصية ما فهي ناتجة عن تدخل الدولة كعامل لا يحد من الطبقية بل هو مسؤول عنها بالدرجة الاولى. ان كنا نطمع ان نصبح في عداد العالم الاول حيث تساهم الدولة في تخفيف حدة الطبقية يجب علينا ان نقيم مشاريع دولتنا التي تساهم في تكريسها لتصبح قدرنا في الماضي والحاضر. لن ندخل في عداد الدول الاولى الا اذا تقلصت الفجوة بين الطبقات الاجتماعية ووجدت الآلية للتعاطي مع مشاكلها وتداعياتها. لن ينهض مجتمع مهما كثرت مشاريعه التنموية وطقوس تدشينها طالما ان اقتصاده يتعاطى مع طموحات الاقلية الغنية من رجال اعمال وامراء ويتناسى الاكثرية المسحوقة والمغلوبة على امرها. طقوس تدشين المعارض تتحول الى بهرجة اعلامية وقناع تتخفى خلفه السلطة حتى لا تكشف وجهها الحقيقي الذي ساهم من خلال سوء التخطيط والاحتكار بقلب معايير المجتمع وتشويه سلوكياته وزجه في متاهات الاستهلاك وسراديب الجريمة والانحراف وعمليات الهروب من الواقع عن طريق المخدرات التي هي ايضا اصبحت محورا هاما في استعراض الدولة لعضلاتها حيث لا يمر يوم دون ان تعلن الجهات المسؤولة مصادرتها لاطنان من الحبوب القاتلة. ومهما تزايدت طقوس تدشين المعارض لن تستطيع الدولة ان تتملص من مسؤوليتها كمحتكرة للثروة ومبذرة لها ومساهمة في تعميق الفجوة بين فئات المجتمع المختلفة
الدكتورة.مضاوي الرشيد كاتبة واكاديمية مقال نشر في القدس العربي بتاريخ 13-10-

ليست هناك تعليقات: